مَجاز: مشر وعنا دفيئة لمواجهة التصحر الثقافي في الجولان | حوار

من فعاليّات مشروع "مجاز"

 

يثير سخطي كلّ الأسباب الّتي جعلت قُرانا معدمة؛ قرًى ليس فيها مكتبة عامّة واحدة أو حانوت للكتب، لكن تثير فضولي الأفكار المبدعة الّتي تفكّر فيها الشعوب، لتعوّض نفوسها عن هذا العدم؛ حافلات صغيرة ثلاثيّة العجلات على شكل مكتبات، تتنقّل بين القرى والمدن، أو مكتبات مفتوحة رحبة الصدور على الشارع للمقايضة، كتلك الّتي بادر إليها مشروع "مجاز" في الجولان المحتلّ، الّذي تأسّس قبل 3 أعوام، بمبادرة الفنّانَين ديالا مدّاح وأيمن الحلبي، في قرية مجدل شمس، إلى إنشاء مكتبة على الشارع، يتقايض الناس من خلالها الكتب، في بلد يفتقر إلى وجود مكتبة عامّة أو حوانيت كتب، وهو افتقار ينطبق على الكثير من القرى والمدن العربيّة، الّتي تنحصر الكتب القليلة فيها، الرديئة الشكل والفحوى، على رفوف بعض حوانيت القرطاسيّات.

الجولان، تلك الجزيرة المقطوعة الأوصال من وطنها الأمّ، وممّن تشاركهم لسانها من فلسطينيّين في الجهة المقابلة، تشقى لكي تجد لنفسها متنفّسًا ثقافيًّا، يلبّي النداءات الفنّيّة الوجوديّة لكثيرين من أبنائها وبناتها. مشروع "مجاز" أحد المشاريع الّتي – بالكاد - تُعَدّ على يد واحدة، ويحاول ردم الأثلام الّتي شقّقها الاحتلال والتجهيل والزمن.

كان لفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة مع مؤسّسي "مجاز" هذا الحوار.

حاورتهم أسماء عزايزة.

 

فُسْحَة: ربّما لفتت مُتابعي مشروع "مجاز" فكرة "مكتبة على الشارع"؛ حدّثونا عن مصدر الفكرة، وعن تجاوب الناس معها.

مجاز: لفتت نظر آدم الحلبي، وهو أحد أفراد "مجاز"، في أثناء وجوده في أحد أحياء مدينة برلين، لفتت نظره مكتبة عامّة مصغّرة لتبادل الكتب، وتعمل هذه المكتبة وفق نظام "ضع كتابًا وخذ آخر". أعجبته الفكرة؛ فطرحها علينا لدى عودته، فتبنّينا الفكرة، ونفّذ آدم أوّل خليّة كتب، بالعمل مع رفيقيه يامن الصفدي وميلاد عويدات. 

لم تكن لدينا فكرة عن شكل هذه المكتبة، في البداية فكّرنا في أن تكون عمليّة وبسيطة الصنع، لكنّا بعد ذلك أولينا اهتمامًا لشكلها ولونها وجانبها الجماليّ؛ جعلناها بناءً خشبيًّا على شكل خزانة في الشارع، وافتتحناها أمام الجمهور. أطلقنا عليها اسم "خليّة 1"، تيمّنًا بخليّة النحل.

أمّا ردود الفعل الّتي بدرت من الناس؛ فقد امتلأت الخليّة بالكتب منذ اليوم الأوّل لافتتاحها، وقوبلت بالشكر والتشجيع والمديح؛ فشكّل هذا لنا دافعًا ومشجّعًا على الاستمرار وتطوير الفكرة.

 

 

فُسْحَة: ما مصدر الكتب الّتي توضع في الخليّة؟ وكيف تضمنون جودتها وقيمتها؟

مجاز: المصدر هو الناس، نحن زوّدنا المكتبة بمجموعة من الكتب عند افتتاحها، وكلّ مَنْ أخذ كتابًا وضع آخر مكانه، وهكذا دواليك. الفكرة بهذه البساطة، ومؤسّسة على الثقة؛ تداول ومقايضة بين الناس من دون تدخّل منّا. نحن نتفحّص الكتب الموجودة على الدوام، لكنّ الناس هم مَنْ يسهمون في تحريكها. غالبيّة الكتب روايات معروفة أو كتب محلّيّة.

 

فُسْحَة: هل توجد مكتبات عامّة أو حوانيت كتب في الجولان؟ هل تجدون نقصًا في هذا المجال؟ وهل تفكّرون في تطوير مشروع "مكتبة على الشارع"؟

مجاز: للأسف الشديد، لا وجود لما يمكن تسميته "مكتبة عامّة" في الجولان؛ ثمّة كتب في حوانيت القرطاسيّات ومكتبات المدارس. يجيء هذا الغياب على الرغم من محاولات عدّة سابقة، أبرزها "مكتبة حنّا مينة" في قرية بقعاثا، وقد أُقفلت إثر ضغوط مادّيّة صعبة؛ جرّاء عدم وجود دعم.

أمّا مسألة تطوير مشروع "مكتبة على الشارع"، فنعمل حاليًّا مع المجموعة، وآخرين انضمّوا مؤخّرًا من بقيّة القرى، منهم المهندس المعماريّ صافي أبو عرار، الّذي اقترح تصميمًا جديدًا للخليّة القادمة، على شكل خليّة نحل. ونحن الآن بصدد العمل على هذا المشروع، وتوزيعه في أحياء البلد وبقيّة القرى في المستقبل القريب.

 

فُسْحَة: تنشطون في حقول فنّيّة وثقافيّة متعدّدة، أبرزها الفنون البصريّة والموسيقى، لِمَ تلقون الضوء على هذه الحقول دون غيرها؟

مجاز: نبعت فكرة المشروع من الحاجة إلى خلق دفيئة فنّيّة ثقافيّة، نستطيع من خلالها ممارسة النشاط اليوميّ الّذي نحبّه؛ كوننا أوّلًا عائلة فنّيّة تنشغل بالفنّ البصريّ كالرسم والنحت والتصوير الضوئيّ، وبالموسيقى والغناء. أسّسنا المشروع على أنّه مركز تعليميّ للفنّ البصريّ والموسيقى لمختلف الأجيال، وقد أصبح فعلًا مقصدًا لعدد جيّد من المؤسّسات التربويّة والتعليميّة في الجولان وخارجه؛ بهدف إقامة الورشات الإبداعيّة.

إنّ التركيز على هذين المجالين يأتي لأجل تخصّصنا فيهما. المعضلة الكبيرة في الجولان، أنّ مثل هذه المبادرات لا يضمن أيّ استمراريّة؛ تبدأ الورش والدورات وسرعان ما تنتهي. ثمّة أشخاص يرافقون أبناءهم وبناتهم إلى مناطق محاذية لكريات شمونة، من أجل تلقّي التعليم الموسيقيّ، الأمر الّذي يولّد جيلًا مع معرفة بالموسيقى الغربيّة فحسب، لا الشرقيّة؛ فيولّد هذا نقصًا في الأساليب والثقافات الموسيقيّة أيضًا. معلّمو الموسيقى الجولانيّون أصبحوا خارج الجولان، وليس بإمكانهم تقديم أيّ ورشة فيها استدامة. إنّ هذه المسألة تشكّل معاناة حقيقيّة نحاول تخفيفها في مشروع "مجاز"؛ نحاول مثلًا التواصل مع معلّمين من الناصرة أو مدن وقرًى أخرى، وها قد استمرّت الورش الّتي افتتحناها مدّة 3 أعوام حتّى الآن.

 

 

إذن، عملنا على إتاحة منصّة للطاقات الشبابيّة، لتقدّم مبادراتها الثقافيّة المتنوّعة تحت شرطَيِ النوعيّة والجدّيّة. في السياق ذاته، أقمنا العديد من الندوات الثقافيّة والأمسيات والمحاضرات، مع شخصيّات ثقافيّة مرموقة أغنت نشاطنا ومنحته عمقًا. وإضافة إلى عروض فصليّة لطلّاب الموسيقى، ومعارض دوريّة لطلّاب الفنون البصريّة والتربية الفنّيّة للأطفال، أقمنا برامج ثقافيّة شهريّة دائمة، أسهمت في الحراك الثقافيّ في الجولان، واعتُبرت في صدارة المشهد الثقافيّ، على مدار الأعوام الثلاثة الماضية؛ أي منذ تأسيس "مجاز" حتّى اليوم. من أبرز هذه النشاطات مشروع "إحياء الفنون اليدويّة في الجولان"، وقد بادرنا إلى مشروع كهذا، نظرًا إلى أهمّيّة المحافظة على استمراريّة الأشغال اليدويّة التراثيّة.

نذكر أيضًا مبادرة "في الجولان قصّتك"، الّتي تتضمّن مسارات مشي في معالم الجولان، برفقة نخبة من الأشخاص ذوي الاختصاصات المختلفة. يهدف المشروع إلى تعرّف قصّتنا نحن في المكان الّذي وُلدنا فيه؛ القصّة التاريخيّة، والسياسيّة، والجغرافيّة، والجماليّة.

 

فُسْحَة: نستطيع أن نتخيّل كيف أنّ المشاريع والمساحات الثقافيّة في الجولان المحتلّ، قد تفتقر إلى مَنْ يدعمها ويموّلها؛ ما النموذج الّذي تتبعونه في مسألة التمويل؟ وهل يضمن لكم الاستدامة؟

مجاز: مشروع "مجاز" مشروع خاصّ يقوم على التمويل الذاتيّ، لكن لا نمانع بالطبع تلقّي الدعم، الّذي يبادر إليه أصدقاء المشروع في بعض الأحيان. ما يجعلنا نستمرّ في هذا المشروع إصرارنا على أن نخلق دفيئة، نمارس فيها أسلوب حياة يرضي حاجاتنا الثقافيّة، ويكون مظلّة للجيل الجديد، متنفّسًا أو فسحة أو منصّة؛ ليقول من خلالها ما هو مناقض للتصحّر الثقافيّ الآخذ بالاتّساع. صحيح أنّ الاستدامة تتطلّب دعمًا واستقرارًا مادّيًّا، إلّا أنّنا نتغلّب، حتّى الآن، على هذا العائق بالكدّ والتعب، إيمانًا منّا بجدواه. ومؤخّرًا، نحن بصدد إعلان إنشاء صندوق مفتوح، لمن يرغب في دعم النشاطات الثقافيّة الّتي نقيمها.

 

فُسْحَة: يبدو لنا، نحن فلسطينيّي أراضي 48، الجولان بعيدًا! نتعرّفه في الغالب من خلال طلّاب الجامعات، الّذين ينتقلون إلى مدن كحيفا ويعيشون فيها، ربّما نتحدّث عن "قطيعة"؛ هل تفكّرون في تقريب هذه المسافة عبر تعاون مع مؤسّسات أو أفراد في المجتمع الفلسطينيّ؟

مجاز: على العكس، ما من قطيعة بين الأجواء الثقافيّة الفلسطينيّة والجولان؛ فلقد وحّد، تلقائيًّا، الهمّ المشترك ما نصبو إليه بعامّة، والثقافيّ منه بخاصّة. كان لنا في الماضي، وضمن إطارات مختلفة، مشاركات عديدة في نشاطات ومعارض فنّيّة جماعيّة وفرديّة، في حيفا والقدس ورام الله، وفي طيرة المثلّث وكفر ياسيف. وقد شاركنا في عدد من المشاريع مع مؤسّسات، مثل "القطّان" و"المعمل" و"السكاكيني"، و"جامعة بير زيت" و"جاليري المحطّة".

في ما يتعلّق بعملنا في "مجاز"، نعمل حاليًّا، ضمن برنامجنا الثقافيّ، على تنظيم محاضرات وندوات، مع كتّاب ومثقّفين فلسطينيّين، بالإضافة إلى أفكار لإقامة معارض كتب مشتركة.

 

 

فُسْحَة: ما الفئات العمريّة الّتي تستهدفونها؟ وكيف تنظرون إلى الجيل الشابّ في الجولان المحتلّ؟ هل تتوفّر أمامه فرص للانخراط في أطر ثقافيّة أو استهلاكها في الجولان؟

مجاز: نحن نؤمن بـ "إعادة التأسيس"؛ لذلك نستهدف بشكل أساسيّ جيل الشباب والفتيان، إيمانًا منّا بأنّ التغيير الحقيقيّ يبدأ عند الصغار، كونهم بناة المستقبل. ثمّة طاقات هائلة لدى جيل الشباب في الجولان، في المجالات كافّة، وأمامه كلّ الفرص للمبادرة في صناعة مستقبله.

لكن شهدنا - للأسف - تراجعًا كبيرًا في الأطر الثقافيّة في السنوات الأخيرة، ربّما بسبب ما يحدث في الوطن السوريّ، وأبعاده، وآثاره السلبيّة في توحيد الكلمة، في مسألة بناء مؤسّسات أهليّة ثقافيّة وتربويّة.

 

فُسْحَة: كيف يتأثّر المشهد الثقافيّ بالأحداث السياسيّة في سوريا تحديدًا؟ ألا يتأثّر عكسيًّا؟ أقصد، ألا يشعر الناس بأنّ الثقافة ملجؤهم الوحيد فيذهبون إليها؟

مجاز: لا يذهبون إليها! لقد أدّت الأحداث الجارية في وطننا إلى تشنّج المجتمع. وكما هو معروف، يلجأ معظم الناس وقت الأزمات إلى المناطق الآمنة في التفكير، "الانضمام بحثًا عن الأمن"، أو يصطفّ بعض الأفراد حسب مصالح محدّدة، الوضع يختلف كلّيًّا عن أوقات الرخاء والاعتدال؛ إذ إنّ المشاركة في مشاريع تربويّة كبرى تلمّ شمل المجتمع؛ على سبيل المثال المخيّم الصيفيّ الّذي كان يُقام قديمًا، ويتبرّع شمن نشاطاته معظم الكوادر الشابّة في القرى الأربع في الجولان. نحن نعيش أوقاتًا غير عاديّة، تتطلّب منّا فعليًّا أن نلجأ إلى الثقافة؛ أو بمعنًى آخر ليس لدينا خيار. إن أردنا الصمود فعلينا إعادة التأسيس من جديد، نحن نشعر بأنّنا في يُتم حقيقيّ؛ فنحن نعيش انقطاعًا مطلقًا عن سوريا، وبطبيعة الحال لا نتلقّى دعمًا من المؤسّسات الحكوميّة الإسرائيليّة في الجولان؛ وعلى ذاك، نضطرّ إلى العمل باستقلاليّة، والعمل ضمن هذه الاستقلاليّة يشكّل تحدّيًا كبيرًا، ويتطلّب صبرًا، لكن نحن مصرّون على تحقيق مشروعنا، على الرغم من كلّ هذه المعيقات.

 

 

فُسْحَة: ما الّذي تطمحون إليه ثقافيًّا في الجولان؟ وما الّذي - في رأيكم - يعيق هذا الطموح، أو يجعله تحدّيًا صعبًا؟

مجاز: نطمح إلى أن يصبح مشروع "مجاز" مكانًا يصدّر للمجتمع مشاريع مبدعات ومبدعين، عن طريق الاستمرار في المسارات التعليميّة، الّتي نقيمها في الفنّ التشكيليّ والموسيقى، وأن يتحوّل في المستقبل إلى مدرسة لتعليم الفنون بمجالاتها المختلفة، وأن نستمرّ في برامج النشاطات الثقافيّة المنوّعة، بعد أن لمسنا ردود الفعل البنّاءة، ومشاركة المجتمع فيها. نطمح – أيضًا – إلى أن يسهم ذلك في خلق حراك ثقافيّ حقيقيّ، يفرز بدوره مؤسّسات تخدم المجتمع.

أمّا العوائق، فأبرزها الدعم المادّيّ، الّذي يتيح لأصحاب المبادرات التفرّغ لإنجاز مشاريعهم، مع العلم بأنّنا منذ ثلاثة أعوام حتّى الآن، نعتمد على أنفسنا في تمويل المشاريع، ويغني مشاريعنا أشخاص كثر، مبدعون بمجالات مختلفة، يقدّمون معرفتهم وخبرتهم للناس بلا مقابل مادّيّ؛ وهذا يُعَدّ أحد عناصر القدرة على الاستمرار.

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها مجموعتان شعريّتان، "ليوا" (2010)، الحاصلة على جائزة الكاتب الشابّ - حقل الشعر، من مؤسّسة عبد المحسن القطّان، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة، مثل الإنجليزيّة والألمانيّة والفارسيّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. كما تعمل كاتبة مقالات ومديرة فنّيّة لمتجر فتّوش للكتب والفنون، وبار وجاليري فتّوش.